منصة تاء : وهب الدين العواضي

خصصت جمعية الأمم المتحدة يوم 8 مارس، يومًا عالميًا للمرأة يحتفي فيه العالم بإنجازات المرأة والنجاحات التي تحققها، إيمانًا بقدراتها ودورها الفعال في خدمة وتنمية وتطوير المجتمعات، وفي خضم هذا الإحتفاء والإبتهاج، نسلط الضوء على قصة الشابة الكفيفة إنتصار العريقي، كنموذج ناجح لكفاح ونضال المرأة اليمنية، على الرغم من قساوة الظروف المحيطة بها، وبؤس واقعها.

 

العشرينية إنتصار العريقي إستطاعت بإرداتها وعزيمتها أن تستكمل دراستها الثانوية ثم الجامعية إلى أن حضرت درجة الماجستير، وتفوقت علميًا في دراستها دون أن تلمح عينيها أو بصرها كتابًا أو ورقةً، بل اعتمدت على عقلها وأنصطت باهتمام للمعلم وللدكتور، ولامست يديها الأحرف والكلمات بكل حفاوة وشغف.

بإرداةٍ إلهية ولدت إنتصار كفيفة في العاصمة صنعاء، كغير بقية الأطفال الأسوياء، ورغبت أسرتها كثيرًا في تغيير ذلك الواقع، من خلال محاولة علاجها لاسترداد بصرها، إذ سافرت بها إلى خارج البلاد وطافت بها أكثر من دولة وتم إجراء لها العديد من العمليات لإعادة بصرها، لكن الأطباء لم ينجحوا في ذلك.

العلم نور

لم ترَ إنتصار نور الحياة لكنها رأت نور العلم وتمسكت به، بكل ما أُتيت من قوة إرادة، وعزيمة وإصرار، وبمساندة أسرتها وتشجيعها، إذ إلتحقت في طفولتها بمعهد تعليمي حكومي خاص بالمكفوفين، وواصلت فصولها الدراسية واحد تلو الآخر بنجاح وتفوق، إلى أن أكملت الثانوية بالترتيب الأول على مستوى الجمهورية من بين الطلاب المكفوفين، كما تقول.

 

وتضيف في حديثها لمنصة تاء، ” حصلتُ على منحة دراسية حكومية إلى خارج البلد، لأنني كنت الأولى بالجمهورية، لكن لم أتمكن من السفر بسبب رفض أسرتي وبُعدي عنها، لذلك قدمت على منح دراسية داخلية لجامعة العلوم والتكنولوجيا الخاصة، وحصلتُ على مقعد دراسي فيها”.

 

اختارت انتصار تخصص إدارة أعمال بكلية العلوم الإدارية، لكن الجامعة رفضت طلبها للتقديم في هذا التخصص لأنها لم تدرس مادة الرياضيات في الإعدادية والثانوية على اعتبار أنها كفيفة ولا تستطيع فهم الأشكال والرسومات البيانية التي تتضمنها هذه المادة، وهذا ينطبق على كل الطلاب من أمثالها في كافة معاهد الجمهورية، الأمر الذي يمنع الطالب الكفيف من دراسة تخصصات تكون مادة الرياضيات، مقرر أساسي فيها.

 

لم تستلم انتصار وترضخ لواقع الأمر، بل أجبرت الجامعة على قبولها في ذلك التخصص كونها الأولى في الجمهورية، ولم تتوقف، بل إمانها بضرورة تحسين واقع الطلاب المكفوفين في البلاد دفعها على الذهاب إلى وزارة التربية والتعليم وتقديم طلب في تعديل المنهج الدراسي الخاص بالمكفوفين وجعلتهم يعتمدون مادة الرياضيات في المنهج، بحيث يتمكنوا من دراسة التخصصات الجامعية ككلية العلوم الإدارية وكلية الهندسة بعد أن كانت محرمة عليهم.

” المنهج الدراسي كان عبارة عن نظام وهذا النظام وضعه البشر وقادرين على تغييره، لذا أصريت على تعديل المنهج باعتماد المادة وإعفاءنا من الأشكال والرسوم البيانية، بدل من حذف المادة كاملةً، ويتمكن أي طالب كفيف من دخول التخصص الذي يطمح به”، تقول إنتصار.

وتستطرد في سرد حكايتها لمنصة تاء، قائلةً، “واجهت صعوبات كثيرة في دارسة المقررات لكنني كنت أطلب من الدكاترة يوفروا نسخة ألكترونية من المقرر حتى أتمكن من الاستماع لها صوتيًا عبر جهاز الكمبيوتر، لكن بعض الدكاترة بنسبة 60% كانوا يعطوني المقرر ورقيًا ويرفضوا توفيرها ألكترونيًا بحجة أنني قد أسربها، وكذلك لأنه لا يوجد غيري كفيف من بين طلاب الدفعة”.

 

رفض بعض الدكاترة أو معظمهم على مساعدة إنتصار في دراسة المقررات منزليًا في تلك الطريقة المناسبة لوضعها الخاص باستثناء بقية طلاب الدفعه، سبب لها متاعب جعلتها تلجأ لحلول أخرى، من خلال تسجيل المحاضرة كاملةً بهاتفها المحمول؛ لتعود للاستماع إليهم لاحقًا في المنزل مع الإكتفاء بالمعلومات الوارد بالمحاضرة على لسان الدكتور فقط.

 

تتابع إنتصار، “أهلي يعرضون عليّ قراءة الكتب مع استماعي لهم، لكني لم أقبل ولا أفضل أن يقرأ لي أحد لأنني لا استطيع الفهم والأدراك ويتشتت تركيزي، وأيضًا لا أريد أن أسبب لأسرتي الكثير من المتاعب”.

التميُز هدفًا

طوال سنوات دراستها الجامعية كانت إنتصار مجتهدة ومتفوقة في كل المقررات وعلاماتها تعطي الامتياز بكل المستويات الدراسية، حتى تخرجت عام 2018 – 2017 بعد أن أكملت البكالوريوس بغضون أربع سنوات في تخصص إدارة إعمال بتقدير ممتاز وبالترتيب الأول على مستوى دفعتها التي كانت الطالبة الكفيفة الوحيدة فيها.

بعد تخرجها بتوفق علمي، منحتها الجامعة منحة ماجستير في الدراسات العليا بتخفيض 50% من رسومها الدراسية وبقية النسبة دفعها والدها، وبذلك تمكنت من استكمال الدراسات العليا لذات التخصص أواخر 2019، واستمرت تدرس إلى أن أكملت أعوامها الدراسية، والبدء في تحضير رسالة درجة الماجستير لنيلها، وتمكنت بالفعل من استحقاق الدرجة بإمتياز بعد أن قدمت الرسالة الأسبوع الماضي.

 

لم تكن رسالة الماجستير التي عملت عليها إنتصار كأي دراسة، بل كانت مختلفة ومتميزة وفريدة، إذ تناولت دور الدعم اللوجستي للمنظمات الإنسانية الدولية العاملة باليمن في نجاح المشاريع التنموية في المناطق الريفية، أي جعل دعم المنظمات يكون تنمويًا مستدامًا من خلال بناء مشاريع أو تمكين المواطن اليمني اقتصاديًا، بدلًا من تقديم الدعم الإنساني طارئ مرتبط بفترة الحرب فقط كما هو حاصل الآن، غير أن الدعم التنموي سيحقق الإستدامة.

وبخصوص سبب إختيارها للريف حصرًا، تقول إنتصار، “اخترت الريف لأنه آخر اهتمامات الدولة ولا يقام فيه استثمارات أو تنفيذ مشاريع مستدامة، لاسيما في ظل الحرب وضعف مؤسسات الدولة وانهيارها، وبالتالي المنظمات قادرة على بناء هذه المشاريع أو مساعدة الدولة في ذلك، وأيضًا أردت أن أخفف من الضغط على المدن وتقليص هجرة الناس إليها بانتقالهم من الريف”.

 

وتوضح في حديثها لمنصة تاء، أنه بذلك ستعمل المنظمات على تمكين المواطن الريفي، بإعطائه الأدوات والدعم لكي يزرع ويأكل، أفضل من تقديمها له سلة غذائية لبضعة أشهر ويحصل أن تنقطع لأشهر أخرى، وكذلك المناطق الريفية فيها  ثروة بشرية عُمالية وثورة زراعية وحيوانية ومساحات واسعة من الأراضي والموارد، ما يؤشر إلى إمكانية الاستثمار والتنمية فيها.

تغيير نظرة المجتمع

تبقى نظرة المجتمع للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من معاقين أو مكفوفين، نظرة مليئة بالشفقة والاستنقاص والاستخفاف بقدراتهم على اعتبار أنهم أفراد ليسوا أسويا كبقية البشر وناقصين، وهذا ما عانت منه إنتصار كثيرًا في دراستها وأثناء بحثها عن عمل أيضًا؛ ليكون ذلك دافعًا لها للإصرار والنجاح لكي تغيير تلك النظرة، “هدفي أن أغير نظرة المجتمع حول الكفيف أو المعاق وعدم والإستخفاف بقدراته والنظر له بشفقة”، تقول إنتصار.

وتضيف، “واجهت صعوبات مختلفة وعديدة في المقررات الدراسية وكانت نظرة الدكاترة لي في البدية يشوبها استنقاص واستخفاف كونني كفيفة وامرأة كذلك، وهذه النظرة تنطبق على كل كفيف، لكنني أصريت على الدراسة وتغلبت على كل تلك الصعوبات، لأن الصعوبات تصنع من الإنسان شخص ناجح وتجلعه يبحث ويخترع حلول تناسب وضعه”.

 

“أحد الدكاترة قال في بداية الترم بأنه سيعطني درجة نجاح كوني كفيفة ويستخف بي لكنني في نهاية الترم فاجأته بحصولي على درجة إمتياز في مقرره، وهكذا الأمر مع بقية الدكاترة حتى جلعتهم يتكيفون معي ويؤمنوا بي، وأصريت على الدارسة وتفوقت فيها بكل جهد لكي أغير النظرة المجتمعية للشخص الكفيف، وعدم الاستهانة بقدراته أو استنقاصه” تتابع إنتصار.

وفي هذا الصدد، يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز، الدكتور محمود البكاري، بأن النظرة الإيجابية للكفيف والمعاق يعطيه حافز وتشجيع قد يغير من واقع حياته ويجعله إنسانًا ناجحًا ومفيدًا للمجتمع، خصوصًا إن كانت امرأة، يآخذ المجتمع في استضعافها كثيرًا وتهمشيها، ولهذا تعمل النظرة السلبية على كبت جماح طموحها وتنكسر في بداية مشوارها وتجبر في التخلي عن طموحاتها.

 

ويقول لمنصة تاء، “إن المرأة عمومًا كانت كفيفة أو طبيعية تعتبر ناجحة وتلعب دورًا هامًا في تنمية المجتمع وهناك الكثير من النماذج، وبالتالي ينبغي أن يكون هناك إمان وثقة بقدراتها، ويجب اعطاءها اهتمام أكبر والعمل على تأهيلها وتمكينها وتعليمها.

ويشير بالبكاري إلى أن معدل إلتحاق الفتيات في التعليم خصوصًا ذوي الاحتياجات الخاصة يعد مؤشر على الدور الذي يمكن أن تساهم به المرأة في عملي  التنمية مع وجود بعض الظواهر السلبيه التي تقف في طريق مشاركة المرأة في عملية التنمية والتي يمكن التغلب عليها بمزيدًا من الوعي والتطور.

عندما تكون العائلة سندًا

تعتبر إنتصار أن سبب نجاحها وتفوقها العلمي يعود لأسرتها التي وقفت إلى جانبها ودعمتها وتمسكت بأهدافها ووثقت بقدراتها ومهاراتها، وكانت لها نورًا يضي طريقها وأخذت بيدها نحو أحلامها، ” كان أبي وأمي هما السند لي يذهبوا بي إلى الجامعة في الأيام الأولى من الدراسة حتى وفروا لي باص خاص يذهب ويعود بي من وإلى الجامعة، وأبي يذهب بي أينما أريد لا يتوقف للحظة أو يرفض لي قرار”، تضيف إنتصار.

وتلفت إلى أنه عندما يكون الخل والعائق في داخل أسرة الكفيف أو المعاق من خلال إهمالها له، يغدو ضعيفًا لا يستطيع التقدم والنجاح، أما بالنسبة للمعوقات الخارجية فهي تعتبر بسيطة ويتمكن من تجاوزها إذا ساندته أسرته ودعمته وبالتالي تزول كافة العوائق.

وإضافةً إلى تفوقها علميًا، تعمل إنتصار في جامعة المستقبل كمساعد محاضر لأمين كلية العلوم الإدراية وسكرتارية عميد الكلية أيضًا، منذ مطلع 2019، واستمرت في العمل مع مواصلتها في الدراسات العيال وتشتغل بشكل طبيعي كأي شخص لديه بصر وتتعامل مع الحاسوب بمهارة ولديها رخصة دولية في قيادته، “اشتغل طبيعي وأعمل تقارير ومحاضر اجتماعات وإعداد جداول المحاضرات وتنسيق مع الدكاترة، ومحاضرة الطلاب” تقول إنتصار.

 

وتتابع ” أقوم بكل الأعمال المكتبية كأي شخص عادي، وكنت اشتغل وأدرس الماجستير في نفس الوقت وأستطعت أن أحاضر الطلاب في إحدى المقررات كمساعد للدكتور، لأكون أول كفيفة تحاضر طلاب الجامعة”.